فَنْتشكيليّfantashkili: أيمن الدّقر في أعماله الأحدث..اللوحة-القصيدة...ورموز المدينة والمرأة | فَنْتشكيليّ
لوحات الفنان أيمن الدقر تشكل دعوة جمالية دائمة، للمحافظة على معطيات تراثية في طريقها للغياب والزوال ، ولقد توصل عبر رحلة طويلة مع التقنيات المختلفة، إلى أن يكشف مقدرته في تنويع وتكثيف المشاهد والعناصر والرموز والإشارات، القادمة من مراحل تاريخية متعاقبة تمتد إلى بدايات ظهور الحضارات السورية.
دقة تفصيليّة
ومن الناحية التشكيلية والتقنية لم تكن التفاصيل العقلانية الدقيقة، في معظم لوحاته، سوى أصداء شعرية وموسيقية ،للتعبيرعن هذا البحث اليومي المطلق ،عن خصوصيات التراث الحضاري ، الذي يربط الماضي بالإيقاعات الفنية الحديثة .
والمنطلق التحليلي لتطور تجربته، يعيدنا الى تنويعات مراحله الفنية المتواصلة ، حيث نجد الحضور القوي للصياغة الهادئة والمركزة، المستمدة من انطباعات الذاكرة، ومن رؤى المخيلة ، التي شكلت في لوحاته الأحدث،هواجس تشكيلية جديدة (في الرؤية الحلمية – الرمزية) والهندسية ( في تكاوين النوافذ والدوائر والخطوط المستقيمة والزوايا الحادة ) وهو في ذلك يبتعد كل البعد عن منزلقات الوقوع في هاوية التغريب الثقافي، المقروء في معظم النتاج التشكيلي العربي المعاصر،تحت شعارات استعراضية، لاتمت للحضارة العربية بصلة . فهو على سبيل المثال ينأى ويبتعد كل البعد، عن استخدام الضربات والحركات اللونية والخطية الإنفعالية السريعة ، مؤكدا على حضور الخط المدروس واللمسة الهادئة ، في خطوات إظهار علاقة لوحاته ورسوماته بتاريخه وبيئته ومحيطه السوري والعربي .
الفنّان أيمن الدقر
تشكيل بانورامي حكائي
وإذا استعدنا أجواء تجربته الماضية مع تنويعات العناصر التاريخية المنقوشة على الجدران والمعابد والقصور القديمة ، نعرف مسبقا ان الاهتمام بالنمنمة التفصيلية هو المدخل العقلاني الوحيد لبناء اللوحة، بخطوط صارمة والوان متدرجة الإضاءة ،على خلفية خافتة ، وهو في ذلك كان ولا يزال يبحث عن اناقة الشكل ورمزية التكوين وشاعرية التشكيل وإيماءات الحكاية الاسطورية . فالحنين إلى حكايات التاريخ هو جزء أساسي في لوحاته القديمةوالجديدة ، وهو في كل مرة يعمل على تأويل رموزه للوصول الى التشكيل البانورامي الحكائي، القادم من معطيات الأزمنة الغابرة في فجر التاريخ ( تجسيد حركات خيالية لأشخاص وحيوانات متقابلة أو متتابعة ،او لأسدين متعارضين ) وتبرز إطلالة خوذة أو تاج الرأس و إيقاعات الصدر والأنف، ضمن تأليف يجمع مابين حركة الزوايا والأقواس والخطوط المستقيمة، وكل ذلك يعيدنا الى أجواء الفنون السورية القديمة ، وخاصة الآشورية .
ويظهر في فضاءات لوحاته وبشكل دائم التشكيل الزخرفي الشعبي ،المتعدد المصادر والإيقاعات، والمنقوش أو المجسد على النحاسيات والزجاجيات والفخاريات وسواها . ولقد ركز في لوحاته القديمة لإظهار تلميحات الإيقاعات اللونية الساطعة على الأواني المستمدة من الوان الفنون الشرقية المنسية ، والتي تؤكد ملازمته الدائمة للأشكال المنحوتة أو المنقوشة، التي درس حركاتها وتفاصيلها ودلالاتها، خلال زياراته المتكررة للمتاحف ،وأخذ ينعطف عاما بعد آخر لاستخدام الإضاءات القوية المحددة ، في احيان كثيرة ،بخطوط صارمة تظهر العناصر الزخرفية وسواها .
ومن اجل ذلك حمل أيمن الدقر مؤشرات الحداثة الى تشكيلاته البانورامية، دون إعلانها كأزمنة ، ربما لأنه لم يقتنع بالتحوير الجزئي أو الكامل ، من الواقعية الى التعبيرية أوالى التجريد ، وربما لأنه آمن منذ البداية، أنه يمتلك حيوية الرسم، والقدرة على استعادة تفاصيل وجزئيات المشاهد والرموز القادمة من عمق الأزمنة والأمكنة .
رؤس أقلام رفيعة
وفي لوحات مرحلته الأخيرة، والتي بلغ عددها خمس وثلاثون لوحة، أنجزها بلونين أساسيين هما الأسود والأبيض، وبرؤس أقلام رفيعة، وتفاعل فيها مع قصيدة الشاعرالكبير نزار قباني التي يقول فيها : هذي دمشق وهذي الكأس والراح … إني أحبك وبعض الحب ذباح … مؤكدا فيها من جديد رغبته الدائمة في اختبار المواد والتقنيات، بدلا من متابعة تقنياته التلوينية السابقة ، ورغم هذا التحول التقني، نجد كل لوحة من أعماله الجديدة ،
تترابط
مع لوحاته السابقة،
من ناحية البقاء في إطار التشكيل البانورامي التاريخي ،وتختلف معها من حيث التقنية . كونه يريد من خلال هذه التعددية، في طرق معالجة العناصر والرموزالوصول إلى المدى المتجدد ، الذي يجد قوته من خلال قدرته على التكثيف التشكيلي ، بحيث يمكننا أن نعتبر كل تفصيل صغير في لوحة من لوحاته القديمة والجديدة ،بمثابة لوحة تشكيلية حديثة كاملة .
ففي لوحاته الأحدث، يجاهر بعشقه المتجدد لمرتع طفولته وحداثته، من خلال التركيز على رموز المدينة القديمة ،التي شكلت محور قصيدة نزار قباني ، حيث تظهرالمرأة ورموز اشكال العمارة الدمشقية بنوافذها واقواسها وشرفاتها واشجارها وياسمينها وبحراتها ونوافيرها كرحلة حلم في فضاء اللوحة .
رموز محلية كثيرة يعزف على أوتارها ،وتمتد الزخرفة الشرقية ، لتشمل النسيج السوري ،الذي عرف شهرة عالمية واسعة ، مع تأكيده على إضفاء المجسمات والدائرة، التي تأخذ شكل الشمس المشعة باللون الذهبي ،الذي تكرس على مر العصور، كلون مقدس يرمز الى الزهد والنقاء والصفاء والجو الروحاني .

هكذا كانت تحولات تجارب أيمن الدقر تغوص في هواجسه الثقافية المنفتحة على التاريخ الحضاري، الذي اكتسبته الأرض السورية خلال آلاف السنين ، وصولا إلى خطواته الجديدة التي أراد من خلالها توجيه دعوة جمالية للإيحاء بإمكانية تمتين علاقة لوحاته بمدينة دمشق، التي أحبها وتفاعل مع هواجسها وأحلامها الفنية ، وعمقت في أحلامه هذا الحنين الدائم الى ذكريات طفولته والوصول الى اللوحة – القصيدة ، في خطوات مساهمته في كسر طوق العزلة الخانق، في مكعبات الأبنية الاسمنتية ، والعودة إلى ذكريات البيوت الدمشقية القديمة ،والإسترسال مع البقية الباقية من الأمكنة الحميمية، والتعبيرعن حيوية التعاطي ،مع الموضوعات التاريخية والأثرية، وقدرتها على الإيقاظ والتجدد .
بقلم النّاقد أ.أديب مخزوم
المسؤول: وديع عطفة
المشرف: مازن عرابي
فنتشكيليfantashkili
تعليقات
إرسال تعليق