ما من مراجع تقف حقيقةً على سيرة سعيد تحسين، باستثناء 2500 لوحة تركها لنا تناثرت في أرجاء العالم، وبالكاد يمكننا أن نشاهد العشرات من أعماله في الوقت الحاضر، وهي خسارة كبيرة أنّ صور عن هذه الأعمال ليست موجودة لدينا، وهذا ما أسميه ضياع الكنز.
الأعمال المتبقية، تعطي صورة قوية وواضحة عن فنان منحته الحياة جذوة الفن، فكانت اللوحة التي صورت الألم والفرح وتفاصيل الحياة الشعبية والسياسية الوطنية والقومية، فهو لم يكن عبر الرسم يتسلى برسم المنظر كحال العديد غيره ممن عاصروه ولم يكن ممن شغله أن يشار إليه بصفة فنان، وهذا نراه يتجسد في أعماله وغزارة إنتاجه الثري والنوعي، كما يتجلى بمقدرته الفذة على رسم التفاصيل والحشود، ولنا أن نتذكر بدايات تعلمه الرسم في سوق الحرير على أيدي العارفين بفن الرسم آنذاك ومدى ضرورة امتلاك الحرفة ولو بفطريتها، ما جعله يرى في قماش اللوحة لاحقاً مساحة ليس لإشغالها باللون بقدر ما كانت هذه المساحات مشغولة بفلسفة ووعي، فشغلته قضايا فكرية ووجودية وفلسفية، منها الإيمان والخير والشر والجنة والنار والعدالة وكثير من هذه المفاهيم، فعبّر عنها بالرسم، ولم يكن في يوم تسجيلياً بالمعنى الحرفي للكلمة بل كان في كل مرة يضيف مزيداً من الوعي والرؤى لكل قضية تطرق إليها عبر لوحته، فعندما رسم المعري، لم يكن يرسم شخص المعري بل تجاوز ذلك بكثير ليظهر الحكمة والبساطة في شخصه وكأنه على أهبة الكلام، ثم تجاوز إجادة الرسم في الشكل ليضع المعري في أجواء من اللون في الخلفية توحي بعمق الفكر وصفائه وتوحي بذات الوقت بمدى الإعجاب بجماليات الفكر الذي شكل جانباً من معرفة سعيد تحسين، فكأن اللوحة بين العتمة والنور تسمح للكثير من المريدين القدوم من الأبيض إلى فضاء المعري، أو يوحي إليك أن المعري سليل هؤلاء المتصوفة وسيّد بينهم، لوحة المعري هي نموذج يوضح بقوة ليس مقدرة تحسين على الرسم بل تحويل اللوحة إلى مشهد حركي متتابع الصور وكـأنه بذلك يريدنا أن نشاهد ونستمر في المشاهدة.
في العدوان الثلاثي على مصر تصبح لوحته ساحة حرب تشترك الملائكة في قتال الأعداء، لوحة تخيلية تندفع فيها كل المشاعر لتكون مع مصر، يستطيع تحريضه عبر الشكل واللون والحركة لتقف إلى جانب رؤيته فكيف وأنت معها، تحسين لا يصور وحسب، يقول شعوره ويرسمه، ويا له من تطابق بين اللون ودفقة الروح في ذروة اشتدادها، ثم نراه يصور البرلمان السوري عندما قصفه الفرنسيون فكأن أصوات القنابل لا تزال تسمع إلى اليوم وكذلك رائحة البارود لا تزال مشمومة في فضاء دمشق.
كان تحسين ابن اللحظة والحدث بحسّه الوطني السوري والعربي، وبحسه الإنساني والفني المتقدم، فكان يسجل رسماً تأثره بالأحداث المختلفة ويغل عميقاً في تفاصيل الجرح والألم، كما كان يستعرض بزهو جوانب الانتصار في تاريخنا العربي، فهو عندما رسم صلاح الدين، ركز كثيراً على إحساس الانكسار لدى جيش الروم وهو يلقي أسلحته أمام صلاح الدين، كما ركز في ذات اللوحة على قوة الجيش العربي وانتظامه وجماليات المكان الذي يجلس فيه القائد المنتصر، وهو إذ يبرز القوة والرهبة والنصر يبرز جمالياً هذا الإحساس عبر مفردات اللوحة باللون، فيصبح اللون كالإحساس بالعيد، هو هذا بالضبط ما كان يجيد سعيد تحسين قوله عبر الرسم، كان يجيد إيصال الشحنة التعبيرية بكل زخمها إلى عين المتلقي ومنها إلى روحه، وهو في الحقيقة كان يستحضر في ذهنه ليس مجرد المتلقي الأفراد، بل مجموع المتلقي الإنساني، كان يريد عبر لوحته أن نكون أبناء هذه الرؤية، وأبناء الشعور بالفرح والألم ولدينا كل القدرة على الانفعال، من أجل الوطن، كان رسالة معرفية عبر اللون، رسالة تلامس الفكر والوجدان، هكذا كانت لوحة الفنان سعيد تحسين.
رسم تحسين إضافة للمواضيع التاريخية والوطنية والسياسية والفكرية جماليات المكان من طبيعة صامتة إلى طبيعة خلوية إلى مشاهد من دمشق المدينة، كما دخل إلى البيوت فرسم الأعراس الشامية والمشاهد الشعبية، كما رسم من داخل المساجد حشود المصلين مهتماً في كل هذه الأعمال بأدق التفاصيل ومبرزاً في الوقت ذاته عناصر الانسجام والحركة وقوة الفكرة في كل هذا، فهو عندما رسم العرس رسم الانسجام بين الحشد في اللوحة لدرجة تشعر مع لوحته بالفرح، وعندما رسم من داخل المسجد استطاع أن يصل إلى شحنة الرهبة، لكنه عندما رسم شهداء (6) أيار جعلهم في الخلفية بعيداً في اللوحة وركز على مقدمة اللوحة، حيث تتألم العوائل لفقدان أبطالها، كان يأخذ اللوحة في اتجاه مفعم بالشعور بالحدث إلى الحد الأقصى، وكأنه مخرج سينمائي قادر عبر اللوحة على تقديم فيلم كامل، أو يكاد يوحي إلينا بأننا نشاهده ونشترك فيه، غوائل الشهداء لم يكن يسمح لهم برؤية أبنائهم، النظرة الأخيرة ما قبل الفراق، ولنا أن نتخيل حجم الألم لحظتها، هذا بالضبط ما كان سعيد قادراً على رسمه، أكثر بكثير من مقدرته الفائقة على الرسم ذاته.
رسم سعيد تحسين فيما توفر لي معرفته، المجاعة في سورية أثناء فترة الحرب العالمية الأولى، كما رسم العديد من ملاحم النصر العربي، وإذ نتوقف في هذه القراءة لنستذكر هذا الأستاذ، لنتعلم منه كيف يكون الفن والإنسان.
سعيد تحسين في سطور:
مواليد دمشق 1904
بدأ الرسم منذ طفولته ودرس الفن دراسة خاصة.
ترك المدرسة بعد حصوله على الشهادة الابتدائية.
ساهم في تأسيس الجمعية العربية للفنون الجميلة، ومن ثم أصبح رئيساً لها عام 1942.
عمل في تدريس الفن في المدارس الخاصة في دمشق.
عمل في تدريس مادة التربية في دار المعلمين في بغداد 1934- 1941.
1941 عاد إلى دمشق وأسهم بفعالية في النشاط الفني.
1962- 1983 أقام في القاهرة، وشارك في النشاط الفني في مصر.
أعماله مقتناة من قبل وزارة الثقافة السورية- المتحف الوطني بدمشق، وضمن مجموعات خاصة.
1925- 1927 فتح في بيروت مدرسة لتعليم الفن في عمارة الغلاييني.
عمل في مجال الرسم للمجلات والصحف والكتب المدرسية.
انتخب عضواً في مجلس السلم العالمي عدة مرات.
معارض خاصة
نظم معرضاً لأعماله في صالة إيبلا للفنون في عام 1984.
عام 1983- منح وسام الاستحقاق العربي السوري من الدرجة الأولى.
توفي عام 1985 في دمشق.
نُشِرَ هذا المقال سابقا في صحيفة
النهضة
فنتشكيليfantashkili
Les Beaux-Arts
وديع عطفة
د.مهى حمّاض
مازن عرابي
تعليقات
إرسال تعليق