يعتبر الفنان التشكيلي السوري
ناظم الجعفري
شيخ المصورين السوريين، فهو الأقدم عمراً وتجربةً بين الذين لا زالوا على قيد الحياة. اتخذ من الفن عالماً حميماً، ومدّ به ومن خلاله، الجسور إلى الحياة التي حماها وصانها، بعزلة طويلة تجاوز عمرها نصف قرن من الزمن،
![]() |
قبل أن يخرج إلى الناس بمعرض صغير أقامه في متحف دمشق الوطني (أبريل/ نيسان 2005) لأيام معدودة، اختفى بعدها ليشاع أنه غادر إلى الولايات المتحدة، وأنه باع كامل نتاجه الفني الذي تجاوز سبعة آلاف لوحة ورسمة، لأحد مسوقي الفن التشكيلي في بيروت، وكان قبل إقدامه على ذلك، عرض على وزير الثقافة السوري الأسبق، التبرع بهذا النتاج الضخم للدولة، شريطة أن يأخذ طريقه إلى متحف خاص يحمل اسمه، لكن الفنان الجعفري ظهر يوم 27/6/2012 مكرماً في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق، بمناسبة نيله جائزة الدولة التقديريّة التي أحدثت مؤخراً في سورية، وقد حصل عليها إلى جانب الجعفري الشاعر فايز خضور والناقد حنا عبود.
تحيط بحياة الفنان ناظم الجعفري التي عاشها بعزلة اختياريّة، وغموض مثير، جملة من الأسرار، ظلت حتى اليوم، دون توضيح لملابساتها، والأسباب التي كانت وراءها، ومن ثم عودته إليها، عقب الظهور القصير والخاطف له ولبعض أعماله؟!
![]() |
ولد الفنان الجعفري في دمشق العام 1918. سافر على حسابه الخاص إلى القاهرة عام 1943 لدراسة فن التصوير الزيتي في كلية الفنون الجميلة التي أنهاها العام 1947 على أيدي رواد هذا الفن في مصر أمثال: أحمد صبري ويوسف كامل. عمل الجعفري في تدريس مادة التربية الفنيّة في ثانويات ومعاهد دمشق، وكان الفنان السوري الوحيد بين مجموعة الفنانين التشكيليين المصريين الذين أسسوا كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق العام 1960، وكانت يومها معهداً عالياً يتبع وزارة التربية تحوّل العام 1963 إلى إحدى كليات جامعة دمشق. قام بتدريس مقرر التصوير الزيتي فيها حتى ما بعد ستينيات القرن الماضي، انسحب بعدها من التدريس والعرض وممارسة النشاطات الاجتماعيّة والفنيّة المختلفة، حتى جاء معرضه العام 2005 ضاماً شريحة متواضعة من إنتاجه الغزير الذي تجاوز (كما صرح لنا) الخمسة آلاف لوحة، جلها مكرس لموضوعات دمشق القديمة: عمارةً وناساً وطبيعةً وعادات وتقاليد وحِرف وصناعات تقليديّة ومظاهر شعبيّة مختلفة، وجميعها قام بإنجازها في أرض الواقع، أي دون الاتكاء أو الاستعانة بالصور الضوئيّة وأجهزة الإسقاط، كما يفعل غالبية الفنانين التشكيليين اليوم.
كلاسيكية فنية
لا يقر الفنان الجعفري بالانتماء إلى أي اتجاه، أو مدرسة فنيّة، ولا يؤمن بالتجلي الفني، مع ذلك تقدمه لوحاته فناناً كلاسيكياً واقعياً انطباعياً، ولوحته بشكل عام، ثرة الألوان، متوافقة ومنسجمة رسماً ولوناً ومضموناً، وهو متمكن من النسب الواقعيّة السليمة والصحيحة في الطبيعة والعمارة والإنسان، وتتفرد في هذا السياق لوحاته الوجهيّة (البورتريه) التي يضمنها حالة تعبيريّة عميقة، وقدرة لافتة على التقاط الملامح والشبه، وعلى التعامل مع العجينة اللونيّة، حيث يبني معمار لوحته بلمسة لونيّة رهيفة وشفيفة وفائقة الانسجام. فهي مرصوفة في مكانها الصحيح، وبالدرجة والإيقاع السليمين، ما ينم عن الموهبة الأصيلة والحقيقيّة التي يمتلكها الفنان ناظم الجعفري، والخبرة الكبيرة والعميقة التي أوت إلى أنامله، وسكنت ريشته، بفعل الدراسة الأكاديميّة،
![]() |
والانكباب المجتهد والمتواصل، على ممارسة الفن الذي أصبح جزءاً من حياته اليوميّة، بل ومظهراً أساساً من مظاهرها، فهو يمارسه في كل وقت، وكل مكان، إذا ما ألحت عليه الحالة الإبداعيّة، وتوفرت ظروف اجتراحها.
ريادة
يُصنف الفنان الجعفري ضمن جيل الرواد الأوائل في التشكيل السوري المعاصر. وهب حياته للفن، وعاشه بطريقته الخاصة التي اتسمت بالعزلة، والحدة، والتمرد، والتواري عن الضوء الاجتماعي والإعلامي. يحمل الفنان الجعفري حساسية ومزاجية عالية، أشعرتنا ونحن نحاوره، بأننا نسير في حقل ألغام، إذ لا يمكن التكهن متى يتعكر مزاجه، وينفجر غضبه!
من جانب آخر يُعتبر الفنان الجعفري من أغزر الفنانين التشكيليين السوريين إنتاجاً وإخلاصاً لهذا الإنتاج. فقد عزف عن بيع لوحاته أو إهدائها، ورفض طلبات تنفيذ لوحات خاصة للراغبين. كما رفض بيع أو إهداء اللوحات الخاصة التي كان قد نفذها لشخصيات سياسيّة وإجتماعيّة وثقافيّة معروفة في المجتمع السوري. اتسمت حياة هذا الفنان بالنفور، والانعزال، والعند، والعشق المدنف للفن ولدمشق التي قام بمسح أبرز وأهم معالمها الحضاريّة والإنسانيّة، بلوحة نقية وجميلة، اجترحها في أرض الواقع، مباشرةً فوق بياض اللوحة، أي أنه لا يمهد لها بالدراسات السريعة (الاسكتشات)، وإنما يقوم بتنفيذها مباشرة بالألوان، في أرض الواقع وعن الواقع.
![]() |
توثيق دمشق
يعتقد الفنان الجعفري أنه لا يوجد فنان في العالم قام بالتوثيق لمدينة من المدن كما فعل هو مع دمشق التي وثق لمعالمها المختلفة (لا سيما الأثريّة التي زال معظمها أو يكاد يدخل زمن الغياب) بآلاف الدراسات واللوحات، مستخدماً في معالجتها، شتى تقانات الرسم والتصوير كالأحبار والألوان السائلة والألوان الزيتيّة التي يراها أكثر ديمومة وثباتاً من باقي التقانات اللونيّة المستخدمة في هذا المجال. وهاجس التوثيق للمدن ومعالمها البارزة بالرسم، ألح عليه ورافقه حتى أثناء زياراته لعدد من المدن في إيطاليا والبرازيل والولايات المتحدة. وهو لا يقوم بعملية رصد وتوثيق تسجيليّة جامدة، للمعالم التي يرسمها، وإنما يتعاطى مع موضوعات لوحاته، وأدوات التعبير عنها، بكثير من التوهج والصدق والعمق الذي يتجاوز النظرة السطحيّة السياحيّة العابرة، ليطول روح المكان وعناصره المرسومة، حيث يضمنها موقفه ورؤيته وتفاعله معها معجوناً بالأحاسيس والمشاعر التي تتملكه لحظة قيامه باجتراح فعل الفن، في أرض الواقع، والتي يُوّلدها معمار المكان وحركة الناس وأصواتهم، وحالة الطقس أثناء الرسم. بمعنى أنه ينفعل ويتفاعل مع الموضوع وما يحيط به من مؤثرات طبيعيّة، أثناء قيامه بفعل الرسم، وتضمين كل هذه المؤثرات الخطوط والألوان وزاوية الرؤية و القطع وطريقة المعالجة.
لا يصنف الفنان الجعفري نفسه في أيٍ من الاتجاهات والمدارس الفنيّة، ولا يقصر لوحته على موضوع واحد، بل يترك الموضوع هو الذي يفرض نفسه عليه، لذلك تنوعت وتعددت مضامين لوحته لتشمل الإنسان، والوجه، والطبيعة، والطبيعة الصامتة، والعمارة القديمة، والعاري، وغيرها من الموضوعات التي كانت ولا تزال لصيقة بفن الرسم والتصوير.
![]() |
عالج الجعفري أعماله، بتقانات الرسم والتصوير كافة، لكنه حصر غالبيتها بتقنية الألوان الزيتيّة الأقدر على البقاء والاستمرار والصمود، أكثر من التقانات الأخرى.
رغم غزارة إنتاجه، فهو لم يبعه أو يهديه، الأمر الذي راكم لديه ما يكفي لتغطية ثلاثة متاحف دفعة واحدة، غير أن ما أشيع مؤخراً، قيام متسوق أعمال فنيّة لبناني، بشراء كامل هذا الإنتاج!!
نسيج فريد
يتحدث غالبية زملاء الفنان الجعفري والقريبين منه، عن شخصيته الملتبسة، المثيرة للجدل، والغامضة. فهو كما يقولون، مصاب بداء العظمة، والإحساس بالتفرد، والتفوق، وأنه نسيج وحده في التشكيل السوري والعربي، وحتى العالمي. وقد لمسنا هذه النزعة لديه، في حوار مطول أجريناه معه العام 2005 بمناسبة إقامة معرضه الفردي المتواضع، الذي أعقب خروجه السريع من عزلته الطويلة. حيث أكد أن أهم ما يميزه هو صدقه وإخلاصه لفنه، ودقته في رسم الأشياء، وغوصه بعيداً في الموضوع الذي يرسمه للوصول إلى جوهره الحقيقي. والجمال بالنسبة إليه واحد، موجود في الإنسان والطبيعة والعمارة والأشياء كافة. وهو بهذه الخاصيّة، يلتقي (كما يقول) مع الفنان الإيطالي الشهير (ليوناردو دافنشي) الذي أمضى أربع سنوات حتى توصل إلى جوهر موضوع لوحته المعروفة (الجوكندا) أو (الموناليزا) وبالتالي إنجازها بشكلها النهائي، ولأنه كان شديد التوحد مع موضوعها وضع فيها جملة من الأسرار التي لا تزال عصيّة على التفسير حتى وقتنا الحالي.
هذه الخصيصة الدافنشيّة، قام الفنان الجعفري (كما يقول) بتمثلها وتحقيقها في غالبية اللوحات الوجهيّة (البورتريهات) التي نفذها، ذلك لأن موضوع الوجه تحديداً يوفر للفنان التوحد والتماهي مع المرسوم فيها، أي يتداخل فيها الراسم بالمرسوم، خصوصاً في حالة النقل المباشر عن الأنموذج (الموديل).
ويرى الجعفري أن بإمكان الفنان الحقيقي استشراف المستقبل، وهو شخصياً بشّر بقيام الوحدة بين مصر وسوريّة، في لوحة زيتيّة قياسها 3000×200 سم أنجزها العام 1956. أي قبل قيامها بسنتين.
![]() |
الجوهر
يسعى الفنان الجعفري إلى رصد الجمال الحقيقي البعيد عن القشور والتزاويق الفارغة ونقله إلى لوحته. فما يهمه هو المضمون وليس الشكل في الإنسان، ولا يحسب حساباً لما تحتاجه اللوحة من وقت وجهد ومال لإنجازها، وإنما يمنحها كل ما يلزمها، وبعيداً عن أي نوع من التساهل أو الاستسهال، لأنه في النهاية هو من ينجز العمل الفني وهو من يشتريه، أي تنتفي المضاربة من هذه المعادلة، وهي تبدأ عنده بالخط (الرسم) وتنتهي باللون. الرسم أساس فيها، كما اللون. أي لا يمكن الفصل بين (الرسام) وبين (الملوّن) في شخصية الفنان التشكيلي، الذي يجب عليه أن يتملك الناصتين معاً ليكون فناناً ناجحاً.
فنتشكيليfantashkili
نُشِر هذا المقال في صحيفة
الثورة
بقلم: د.محمود شاهين
تقدمة: فنتشكيليfantashkili
وديع عطفة
تعليقات
إرسال تعليق