ولد الفنان محمود حمّاد في دمشق عام (1923) وقد ظهر ميله للرسم منذ طفولته ، وشجعه أساتذته وهو في المرحلة الإبتدائية ، وبدأت تظهر معالمه المميزة في الرسم وهو في المرحلة الثانوية.
حيث كان يشارك في المعارض وهو في السادسة عشرة من عمره (معرض الفنانين السوريين في معهد الحقوق بدمشق عام 1939) وفي نفس العام سافر إلى إيطاليا لدراسة الفن لكن الظروف الحرب منعته من تحقيق حلمه فعاد إلى دمشق وانخرط في سلك التعليم كمدرس لمادة الفنون ، وكانت مشاركته الجادة هي مع مجموعة من الفنانيين في عام (1940) وهم :
(نصير شورى - ناظم الجعفري - محمود جلال - فاتح المدرس) حيث تعمقت الصلة بين هؤلاء الفنانين وعلى أثرها شارك محمود حماد معهم بتأسيس تجمع مرسم (فيرونيز) عام (1942) وكان معرض صالة معهد الحرية عام (1943) هو من ثمرات هذا التجمع والذي كان له دور تاريخي بارز في جمع الفنانين في تلك الفترة لتطوير الحركة الفنية ، ثم أقام معرضه الفردي الأول في صالة معهد الحقوق عام (1943) وعن هذه المرحلة يقول محمود (لقد عملت ضمن التجارب التي تنتسب إلى الإنطباعية في البداية ، إذ كنا نستلهم الطبيعة في كل ما نراه ، طبيعة دمشق وضواحيها ، وبعض النماذج الإنسانية التي كانت حولنا)
ويقول متحدثاً عن معاناتهم في تلك المرحلة أيضاً:
(كنا نجد صعوبة في توفير المواد والألوان اللازمة لعلمنا ، فنلجأ إلى الأتربة المستعملة في طلاء الجدران نسحقها بزيت الكتان ، ونعبئها بأنابيب قديمة لمعجون الأسنان بعد تنظيفها) ،
ثم شارك بمعرض نظمته الجامعة العربية عام (1947) في بيت مري بلبنان ، وقد اعتبرت أعمال محمود في هذه المرحلة في مقدمة أعمال رواد الحركة التشكيلية في سورية ، وقد نال العديد من الجوائز عليها
كذلك تناولتها الصحف في مقالاتها النقدية ونذكر من لوحاته هذه (قارئة الفنجان - ذات الثوب الأحمر) والتي اعتمد في صياغتها على الجانب الإنساني وبمعالجة لونية منسجمة مع حركة الخطوط وبروح واقعية تعبيرية ، أما المناظر الطبيعية ومنها (منظر من حلب - سهل الذهب)
فتبرز فيها إمكانيته العفوية في السيطرة على ضربات الفرشاة وبروح واقعية انطباعية ، بعدها بدأت ملامح شخصيته الفنية تأخذ منحى جديد فانعكس هذا على أعماله من حيث ترابط الموضوع من الصياغة الفنية المناسبة لرؤيته حيث اتصفت هذه الأعمال بقوة العمارة المتماسكة وبالأشكال الهندسية الراسخة ونذكر منها لوحاته (ناعورة عام 1950 - البستان 1953 - شتاء صيدنايا 1953)
في عام (1953) سافر محمود إلى روما موفداً من قبل الدولة للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة ، وبدأ في روما بدراسة فن الحفر وصنع النحت البارز والميدالية والفن الجداري ، واطلع على مقتنيات المتاحف الإيطالية ويقول في هذا « أصبحت هذه المرحلة بالنسبة لي فترة دراسة ، أكثر مما هي مرحلة بحث عن أسلوب خاص ، إنها محاولة لفهم أعمق لما يجري في عصرنا من تجارب فنية » وقد كان تركيزه في الدراسة على الأشخاص لزيادة متانة الخط وفهم التشريح ومن لوحاته هذه(عاري 1955 - السابحات 1957) وقد كتبت عنه الناقدة الإيطالية إلداريكازولي في مجلة الشرق الأوسط عام (1957) يظهر أن أكثر العارضين المتسابقين إلى الجائزة المذكورة هم من أصل سوري ، وفائزها محمود حماد المولود في دمشق ، فهذا الشاب ينبىء فنه الرائع بمستقبل زاهر في عالم اللون ، وهو معروف في بلادنا حيث هو مقيم منذ عام (1953) بعد فوزه بالنجاح في كثير من المعارض ولا سيما مسابقة (سان فيتورومانو) ومن اللوحات القيمة الجديرة بالإعجاب نخص بالذكر ميناء كابري ولوحة منظر نابولي التي أدت إلى تخصيص الجائزة الأولى له .
أنهى دراسته في روما عام (1957) وعاد إلى سورية ، وعين في محافظة درعا لتدريس الفن ، وقد تأثر في هذه المحافظة ببيئتها الجميلة وأناسها البسطاء من فلاحين وكادحين ....
وانعكس هذا على أعماله الفنية ، كذلك تفاعل سياسياً مع أحداث الوحدة بين سورية ومصر عام (1958)، وتأثر أيضاً بأحداث وانعكاسات القضية الفلسطينية وهول مأساوية تشرد اللاجئين ، وبهذا انتقل في موضوعاته من المناظر الطبيعية والوجوه إلى رسم الموضوعات (الاجتماعية والسياسية والإنسانية وبأسلوب تعبيري يعتمد على المتانة والرسوخ المعماري والهندسي لشخوصه ومن أعماله هذه ( شباط 1985 - فتاة من حوران 1959 ) كذلك اعتمد في بعض أعماله الأخرى على التحليل الهندسي متأثراً بالمدرسة التكعيبية ( عائلة 1960 - الوردة الحمراء 1960)ثم اعتمد على التبسيط و الاختزال بالتحليل الهندسي متأثراً بالمدرسة التعبيرية (الجندي الجريح 1961 - قيس وليلى 1961) ثم اتجه أكثر الى التبسيط و الاختزال حتى وصل الى مفاهيم التجريد المبسط في العلاقة بين المساحات و الألوان (النازحون 1961 - الحبلى 1962) لكنه عاد بعدها الى التعبيرية في تطور مهم حيث بدأ يعتمد على الدوائر و الأقواس بدلاً من الخطوط المستقيمة و الزوايا (لوحة الفقير 1962 - الجامع الأبيض 1962) و في عام 1963 كانت بداية اكتشاف الحرف العربي بالنسبة للفنان محمود حماد و قد شعر بأن الكتابة العربية ستكون بداية الانطلاق لفن حديث يعتمد على التراث العربي الأصيل و بلغة فنية حديثة ، حيث يقول الفنان:(لقد بدأت باستخدام الأحرف في لوحاتي ، ثم بدأت بنناء اللوحة كلها بالحروف العربية ، هذا الشكل يمكن أن يكون طريقاً خاصاً ، فيها التجريد و الأشكال المأخوذة من تراثنا في الخط العربي).
و قد شارك الفنان بأعماله هذه في معرض عام (1964) فأثارت ضجة عارمة في الوسط الثقافي ، لأنها اعتبرت فتحاً جديداً في التشكيل السوري و التي من خلالها و لأول مرة تطرح لوحة تجريدية فيها مفردات حروفية تشكيلية بعيدة عن التشخيص .
بعدها انتقل الفنان في تجربته الى استخدام الكلمات و الأحرف لايجاد لوحة فنية حديثة لها مقوماتها التعبيرية و التجريدية و قد استطاع محمود حماد تطوير حركة الحرف و الكلمة و الوصول بهما الى العلاقات اللامتناهية (الأرابيسك) حيث تمكن من تحوير شكل الحرف وفق المفاهيم الهندسية و العضوية ضمن الفراغ المحيط بها ....
و يقول الفنان: (هناك عاملان هامان في اللوحة .... العفوية في التعبير ، وعامل المراقبة العقلية في الإنجاز ، تأليف اللوحة عندي تأليف جديد ، خلق لواقع جديد ، هو واقع اللوحة).
قضى الفنان محمود حماد مايقارب العشرين عاماً في بحثه و تعامله مع هذه اللوحة التجريدية و التي بدأت عنده من الاعتماد على الحرف الواحد ثم الى أكثر من حرف وصولاً الى استخدام الكلمات العربية الكاملة و استطاع في مراحله الأخيرة أن يخلق من الكلمة و الحرف العربي عنصراً تشكيلياً هاماً ومستقلاً عن حالة وجوده في المخطوطات و الكتب ، يذكر بأن الفنان محمود حماد بعد انتقاله من محافظة درعا الى دمشق عمل مدرساً للتصوير الزيتي في كلية الفنون الجميلة بدمشق ثم أصبح عميداً للكلية ، وقد مثل سورية على الصعيد الرسمي في عدة معارض خارجية و أعماله موزعة داخل القطر و خارجه ، توفي عام (1988) في دمشق و ترك وراءه إرثاً فنياً وحضارياً تفخر به الأجيال القادمة و منها لوحته (كتابة عربية) وهي موجودة في المتحف الوطني دمشق .
نُشِرَ هذا المقال في صحيفة
الفُرات
كَتَبَهُ: منير اسماعيل.
تقدمة: فنتشكيلي fantashkili
وديع عطفة
فنتشكيليfantashkili
شكرا لكم مقال رائع لفنان رائه
ردحذف